قصة بلقيس ملكة سبأ

قصة بلقيس ملكة سبأ من سلسلة قصص نساء عظيمات في التاريخ الإسلامي
queen of sheba story

رفع الإسلام شأن المرأة وقيمتها، وصارت مكانتها خالدة في التاريخ، وغدت سيرتها في قرآن يتلى على مدة الزمان، نتحدثّ في هذا المقال: عن امرأة ذات ملك عظيم، وهبها الله رجاحة العقل والحكمة والفطنة التي لم يمتلكها الكثير من الرجال، إنها “بلقيس” ملكة سبأ.

بلقيس أو ملكة سبأ (بالعبرية: מַלְכַּת שְׁבָא ملكت شْڤا) كانت ملكة مملكة سبأ، ورد ذكرها في القرآن الكريم وذُكرت قصتها دون التصريح باسمها.

وفدت الملكة بلقيس على الملك سليمان، وفصَّلَ رجال الدين والمفسرون والإخباريون في تفاصيل ذلك اللقاء حتى غدت شخصية هذه الملكة مادة خصبة لكتب القصص والروايات، وتعدّ هذه المرأة مصدر فخر واعتزاز لليمنيين، و‌الإثيوبيين

نسبهــــا:

تنسب الملكة بلقيس إلى الهدهاد بن شرحبيل من بني يعفر، و هناك اختلاف كبير بين المراجع التاريخية في تحديد اسم ونسب هذه الملكة الحِمْيَرية اليمانية، كما أنه لا يوجد تأريخ لسنة ولادتها ووفاتها.

حُكمهــــــــــا:

كانت بلقيس سليلة حسبٍ و نسب، فأبوها كان ملكاً، و قد ورثت الملك بولاية منه؛ لأنه على ما يبدو لم يرزق بأبناء بنين. لكن أشراف وعلية قومها استنكروا توليها العرش وقابلوا هذا الأمر بالازدراء و الاستياء، فكيف تتولى زمام الأمور في مملكة مترامية الأطراف مثل مملكتهم امرأة، أليس منهم رجلٌ رشيد؟ و كان لهذا التشتت بين قوم بلقيس أصداء خارج حدود مملكتها، فقد أثار الطمع في قلوب الطامحين الاستيلاء على مملكة سبأ، ومنهم الملك “عمرو بن أبرهة” الملقب بذي الأذعار.

فحشر ذو الأذعار جنده و توجه ناحية مملكة سبأ للاستيلاء عليها و على ملكتها بلقيس، إلا أن بلقيس علمت بما في نفس ذي الأذعار فخشيت على نفسها، واستخفت في ثياب أعرابي ولاذت بالفرار.

و عادت بلقيس بعد أن عم الفساد أرجاء مملكتها فقررت التخلص من ذي الأذعار، فدخلت عليه ذات يوم في قصره و ظلت تسقيه الخمر وهو ظانٌ أنها تسامره وعندما بلغ الخمر منه مبلغه، استلت سكيناً و ذبحته بها.
إلا أن رواياتٍ أخرى تشير إلى أن بلقيس أرسلت إلى ذي الأذعار وطلبت منه أن يتزوجها بغية الانتقام منه، وعندما دخلت عليه فعلت فعلتها التي في الرواية الأولى. وهذه الحادثة هي دليلٌ جليّ وواضح على رباطة جأشها وقوة نفسها، وفطنة عقلها وحسن تدبيرها للأمور، وخلصت بذلك أهل سبأ من شر ذي الأذعار وفساده.

وازدهر زمن حكم بلقيس مملكة سبأ أيمّا ازدهار، واستقرت البلاد أيمّا استقرار، وتمتع أهل اليمن بالرخاء و الحضارة والعمران والمدنية.
كما حاربت بلقيس الأعداء ووطدت أركان ملكها بالعدل وساست قومها بالحكمة. ومما أذاع صيتها و حببها إلى الناس قيامها بترميم سد مأرب الذي كان قد نال منه الزمن وأهرم بنيانه وأضعف أوصاله.

وبلقيس هي أول ملكة اتخذت من سبأ مقراً لحكمها.

قراءةٌ في شخصية الملكة بلقيس

· ذكر بلقيس في القرآن الكريم

إن بلقيس لم تكن امرأة عادية، أو ملكة حكمت في زمن من الأزمان و مر ذكرها مرور الكرام شأن كثير من الملوك و الأمراء. و دليل ذلك ورود ذكرها في القرآن. فقد خلد القرآن الكريم بلقيس، و تعرض لها دون أن يمسّها بسوء ، و يكفيها شرفاً أن ورد ذكرها في كتابٍ منزلٍ من لدن حكيم عليم، وهو كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، ولم و لن يعتريه أي تحريف أو تبديل على مر الزمان، لأن رب العزة –جل و علا- تكفل بحفظه وصونه “إنا نحن نزلنا الذكر وإنّا له لحافظون”. فذِكر بلقيس في آخر الكتب السماوية و أعظمها و أخلدها هو تقدير للمرأة في كل زمان و مكان، هذه المرأة التي استضعفتها الشعوب والأجناس البشرية وحرمتها من حقوقها، وأنصفها الإسلام و كرمها أعظم تكريم. و هذا في مجمله وتفصيله يصب في منبع واحد، ألا وهو أن الملكة بلقيس كان لها شأنٌ عظيم جعل قصتها مع النبي سليمان –عليه السلام- تذكر في القرآن الكريم .

قصة ملكة سبأ والهدهد

تبدأ قصة بلقيس ملكة سبأ باستعراض عسكري قام به سيدنا سليمان لجنوده، وتفقد الطير فلم يجد الهدهد فهدد بتعذيبه وقتله إن لم يكن لديه حجة وسبب وجيه لغيابه: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (21) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ}،

وهنا وصل الهدهد وبدأ يخاطب سليمان عليه السلام بثقة وثبات، {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (23) إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ}.

بلقيس ملكة سبأ

الناس يستنكرون قيادة المرأة لأعمال عظيمة إلى يومنا هذا، ولكنّ “بلقيس” قادت بكل قوة وحكمة ملكًا عظيمًا، مثبتة كفاءة المرأة في القيادة ، كما إنَّ أعطاها الله كلّ أسباب القوة والعظمة من: جيوش، وحضارة، وعرش لا مثيل له.

مملكة بلقيس

يتابع الهدهد حديثه عما شاهده في مملكة بلقيس: {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (25)أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (26) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}،

بيّن الهدهد بحكمة مظاهر قدرة الله تعالى من خلال ما وهبه له من قدرة على معرفة أماكن المياه المخبّأة، وأشار إلى عظمة عرش الله فلا عرش فوق عرشه.

هنا تجلت عدالة نبي الله سليمان وتدبيره فقال: {قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}، فلم يحكم عليه حتى يتثبت من المسألة، ثم أوكل إليه متابعة الأمر بمهمة: {اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ}.

رسالة نبي الله سليمان إلى بلقيس

وصل الهدهد إلى بلقيس وألقى إليها رسالة من نبي الله سليمان عليه السلام، فجمعت كبار رجال المملكة لاستشارتهم بأمر الكتاب، فقرأته عليهم: {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (31) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}، فحوى الرسالة دعوة سليمان لهم إلى الإسلام والخضوع لحكمه،

وظهرت حكمة بلقيس بلجوئها إلى الشورى، رغم أنها كانت قادرة على التفرد بالرأي: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (33) قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُوْلُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ}.

حكمة بلقيس في الرد على الرسالة

ظهرت حكمة بلقيس من جديد: كانت بحاجة لمعلومات أكثر عن سليمان عليه السلام؛ حتى تتخذ القرار المناسب دون أن تتسبب بمواجهة وصدام، فأرسلت له هدية: {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (35) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}.

وصل رسل بلقيس إلى نبي الله سليمان، ودُهشوا بما سخّره الله له من ملك وعظمة، وجاءهم الرد الحاسم من سليمان عليه السلام الذي فهم مرادهم: {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (37) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ}.

استسلام بلقيس لسليمان عليه السلام

وصل الخبر إلى بلقيس، فقررت الاستسلام لسليمان عليه السلام، وأخبرته أنها ستأتي على رأس وفد من كبار مملكتها معلنين الاستسلام والخضوع لحكمه، أراد نبي الله سليمان عليه السلام:

إظهار المزيد من العظمة لبلقيس.
أن يختبر ما وصله عن حكمتها ورجاحة عقلها.

فطلب من أعيان مجلس حكمه أن يأتوه بعرش بلقيس العظيم قبل أن تصل إليه، فقال أحد العفاريت من الجن: أنا آتيك به قبل أن ينفضّ هذا الاجتماع، ولكن أحد رجالات العلم جاءه بالعرش بعد أن نظر لآخر الأفق ورجع ببصره، فرآه عنده فشكر الله وحمده:

{قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (39) قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (40) قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}.

اختبار بلقيس يظهر فطنتها

طلب سليمان عليه السلام أن يتم القيام بتغييرات طفيفة في عرش بلقيس ليختبرها به، فلما وصلت سألها بطريقة ذكية: (أهكذا عرشك؟)، وكان المتوقع أن تقول: (نعم أولا)، ولكنها كانت حكيمة فطنة فقالت: (كأنه هو)، هاتان الكلمتان شملت جميع الخيارات والاحتمالات الممكنة: {فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ}.

اسلام بلقيس ملكة سبأ

بعد ذلك أراد سليمان عليه السلام أن يريها عظمة قدرة الله تعالى، فأخذها إلى “الصرح”: وهو قصر أرضه من زجاج تجري من تحته المياه، فلما رأته بلقيس ظنته ماء فكشفت عن ساقيها، ثم تجلّت لها الحقيقة فلم تملك إلا أن أسلمت لله رب العالمين، فالعاقل لمّا يظهر له الحق يستسلم، فلا يمكن لعقل سويّ أن يقف معاندًا للحقّ لمّا يتجلّى:

{قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.