الصحابي أبو موسى الأشعري

قصة الصحابي أبو موسى الأشعري

أبو موسى عبد الله بن قيس الأشعري صحابي، وَلَّاهُ النبي محمد صلى الله عليه و سلم على زبيد وعدن، وولاه عمر بن الخطاب على البصرة، وولاه عثمان بن عفان على الكوفة، وكان المُحكّم الذي اختاره علي بن أبي طالب من بين حزبه يوم صفين.

سيرته

ينتمي عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار بن حرب بن عامر بن عنز بن بكر بن عامر بن عذر بن وائل بن ناجية بن الجماهر بن الأشعر إلى قبيلة الأشعريين القحطانية. قدم أبو موسى الأشعري إلى مكة قبل الإسلام، وحالف أبا أحيحة سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس. أسلم أبو موسى بمكة، ثم رحل إلى قبيلته في اليمن، ثم خرج في بضعة وخمسين رجل من قومه فيهم أخويه أبو رهم وأبو بردة وأمه ظبية بنت وهب العكيّة التي أسلمت وماتت بالمدينة في سفينة، فجرفهم البحر إلى الحبشة، حيث كان جعفر بن أبي طالب وأصحابه مهاجرون، فخرجوا جميعًا في سفينتين متوجهين إلى المدينة المنورة، فوجدوا النبي محمد عائدًا من فتح خيبر، فأسهم النبي محمد لهم فيمن حضر الفتح، وقال لهم: «لكم الهجرة مرتين. هاجرتم إلى النجاشي، وهاجرتم إليّ»، فكانت غزوة خيبر أول المشاهد التي شهدها أبو موسى الأشعري مع النبي محمد. شارك أبو موسى بعدئذ في أوطاس التي بعثها النبي محمد بعد غزوة حنين قادها أبو عامر الأشعري عم أبي موسى لقتال فلول هوازن بقيادة دريد بن الصمة، فقُتل فيها أبا عامر، وقتل أبو موسى قاتله. فدعا لهما النبي محمد عند عودته، فقال: «اللهم إغفر لعبيد أبي عامر، ثم قال اللهم إجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك»، ثم قال: «اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه، وأدخله يوم القيامة مُدخلاً كريمًا». وقد استعمله النبي محمد مع معاذ بن جبل على زبيد وعدن.بعد وفاة النبي محمد، شارك أبو موسى في الفتح الإسلامي للشام، وشهد وفاة أبو عبيدة بن الجراح، وخطبة عمر بن الخطاب بالجابية. وفي سنة 17 هـ، عزل عمر بن الخطاب المغيرة بن شعبة عن البصرة، وولى أبا موسى، وكتب إليه عمر بالمسير إلى الأهواز، فافتتحها عنوة، وقيل صُلحًا، وافتتح أصبهان سنة 23 هـ، كما شارك في فتح تستر والرُها وسميساط وما حولهم. ولما استُخلف عثمان بن عفان بعد مقتل عمر بن الخطاب، عزل عثمان بن عفان أبا موسى عن البصرة، وولّى مكانه عبد الله بن عامر بن كريز. فخرج أبو موسى من البصرة وما معه سوى 600 درهم عطاء عياله، وانتقل إلى الكوفة، وأقام بها حتى أخرج أهل الكوفة سعيد بن العاص، وطلبوا من عثمان أن يستعمل أبا موسى عليهم، فاستعمله، وبقى عليها حتى قُتل عثمان، فعزله علي بن أبي طالب عنها. ولما اندلعت فتنة مقتل عثمان، اختار أبو موسى الانضمام إلى حزب علي بن أبي طالب، الذي اختاره ليكون مُحكّمًا في جلسة التحكيم التي لجأ إليها الفريقان بعد وقعة صفين.اختلفت الروايات في وفاة أبي موسى، فقيل مات سنة 42 هـ، وقيل سنة 44 هـ، وقيل سنة 49 هـ، وقيل سنة 50 هـ، وقيل سنة 52 هـ، وقيل سنة 53 هـ، إلا أن الذهبي وابن الجزري رجحا وفاته في ذي الحجة سنة 44 هـ. وكذلك كان خلاف حول مكان وفاته فقيل مات بالثوية على ميل من الكوفة، وقيل مات بمكة.وعن أسرته، فقد عدّ علماء الحديث النبوي من أبنائه الذين رووا عنه الحديث إبراهيم وأبا بكر وأبا بُردة وموسى، ومن زوجاته أم عبد الله وأم كلثوم بنت الفضل بن العباس بن عبد المطلب أم ولده موسى. أما هيئته، فقد وُصف بأنه كان قصيرًا، أثط (خفيف اللحية)، خفيف الجسم. ويأخذ الشيعة من أبي موسى موقفًا سلبيًا.

روايته للحديث النبوي

عاصر أبو موسى النبي محمد لسنوات، وسمع منه الحديث النبوي. وقد عدّ له الذهبي 163 حديثًا في مسند بقي بن مخلد، وأحصى له 49 حديثًا في الصحيحين، وتفرد البخاري بأربعة منها، ومسلم بخمسة عشر حديثًا. وكان أبو موسى يتهيّب أن يُكتب الحديث على لسانه، فقد ذكر ابنه أبو بردة أنه كتب أحاديث عن أبيه، فعرف أبو موسى بذلك، فمحاها، وقال: «خذ كما أخذنا».
روى عن: النبي محمد وأبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وأبي بن كعب وعمار بن ياسر ومعاذ بن جبل.
روى عنه: بريدة بن الحصيب وأبو أمامة الباهلي وأبو سعيد الخدري وأنس بن مالك وطارق بن شهاب وسعيد بن المسيب والأسود بن يزيد النخعي وأبو وائل شقيق بن سلمة وزيد بن وهب وأبو عثمان النهدي وأبو عبد الرحمن النهدي ومرذة الطيب وربعي بن حراش وزهدم بن مضرب الجرمي وأسامة بن شريك الثعلبي وعبد الرحمن بن نافع بن عبد الحارث وعياض الأشعري وأبو عبد الرحمن السلمي ومرة بن شراحيل الهمداني وعبد الرحمن بن يزيد النخعي وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود وأبو الأحوص عوف بن مالك وأبو الأسود الدؤلي وصفوان بن محرز المازني وحطان بن عبد الله الرقاشي وأولاده إبراهيم وأبو بكر وأبو بردة وموسى وامرأته أم عبد الله وزر بن حبيش وعبيد بن عمير الليثي وقيس بن أبي حازم وأبو رافع الصائغ ومسروق بن أوس الحنظلي وهزيل بن شرحبيل ومرة بن شراحيل الطيب.

قراءته للقرآن

حفظ أبو موسى القرآن، وقرأه على النبي محمد ﷺ، وقرأه عليه حطان بن عبد الله الرقاشي وأبو رجاء العطاردي وأبو شيخ الهنائي. وكان أبو موسى من أطيب الناس صوتًا بالقرآن، حتى قال عنه النبي محمد: «لقد أوتي هذا مزمارًا من مزامير آل داود». وقال أبو عثمان النهدي: «ما سمعت مزمارًا ولا طنبورًا ولا صنجًا أحسن من صوت أبي موسى الأشعري، إن كان ليصلي بنا فنود أنه قرأ البقرة، من حسن صوته».وقد كان أبو موسى يُقرئ أهل البصرة، ويُفقّههم في الدين، فكان إذا صلى الصبح، استقبل الصفوف رجلاً رجلاً يقرئهم، حتى قال عنه الحسن: «ما أتاها راكب خير لأهلها منه».

مكانته الدينية

قال الأسود بن يزيد النخعي: «لم أر بالكوفة أعلم من علي وأبي موسى»، وقال مسروق بن الأجدع، وقال مثله الشعبي: «كان القضاء في الصحابة إلى ستة عمر وعلي وابن مسعود وأبي وزيد وأبي موسى»، وقال صفوان بن سليم: «لم يكن يفتي في المسجد زمن رسول الله ﷺ غير هؤلاء عمر وعلي ومعاذ وأبي موسى»، وقال ابن المديني: «قضاة الأمة أربعة عمر وعلي وأبو موسى وزيد بن ثابت».

الاخلاص.. وليكن ما يكون

عندما بعثه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الى البصرة, ليكون أميرها وواليها, جمع أهلها وقام فيهم خطيبا فقال:

” ان أمير المؤمنين عمر بعثني اليكم, أعلمكم كتار بكم, وسنة نبيكم, وأنظف لكم طرقكم”..!!

وغشي الانس من الدهش والعجب ما غشيهم, فانهم ليفهمون كيف يكون تثقيف الناس وتفقيههم في دينهم من واجبات الحاكم والأمير, أما أن يكون من واجباته تنظيف طرقاتهم, فذاك شيء جديد عليهم بل مثير وعجيب..

فمن هذا الوالي الذي قال عنه الحسن رضي الله عنه:

” ما أتى البصرة راكب خير لأهلها منه”..؟

انه عبدالله بن قيس المكنّى بـ أبي موسى الأشعري..

غادر اليمن بلده ووطنه الى مكة فور سماعه برسول ظهر هناك يهتف بالتوحيد ويدعو الى الله على بصيرة, ويأمر بمكارم الأخلاق..

وفي مكة, جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقى منه الهدى واليقين..

وعاد الى بلاده يحمل كلمة الله, ثم رجع الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقى منه الهدى واليقين..

وعاد الى بلاده يحمل كلمة الله, ثم رجع الى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثر فراغه من فتح خيبر..

ووافق قدومه قدوم جعفر بن أبي طالب مقبلا مع أصحابه من الحبشة فأسهم الرسول لهم جميعا..

وفي هذه المرّة لم يأت أبو موسى الأشعري وحده, بل جاء معه بضعة وخمسون رجلا من أهل اليمن الذين لقنهم الاسلام, وأخوان شقيقان له, هم, أبو رهم, وأبو بردة..

وسمّى الرسول هذا الوفد.. بل سمّى قومهم جميعا بالأشعريين..

ونعتهم الرسول بأنهم أرق الناس أفئدة..

وكثيرا ما كان يضرب المثل الأعلى لأصحابه, فيقول فيهم وعنهم:

” ان الأشغريين اذا أرملوا في غزو, أو قلّ في أيديهم الطعام, جمعوا ما عندهم في ثوب واحد, ثم اقتسموا بالسويّة.

” فهم مني.. وانا منهم”..!!

ومن ذلك اليوم أخذ أبو موسى مكانه الدائم والعالي بين المسلمين والمؤمنين, الذين قدّر لهم أن يكونوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلامذته, وأن يكونوا حملة الاسلام الى الدنيا في كل عصورها ودهورها..

أبو موسى مزيج عجيب من صفات عظيمة..

فهو مقاتل جسور, ومناضل صلب اذا اضطر لقتال..

وهو مسالم طيب, وديع الى أقصى غايات الطيبة والوداعة..!!

وهو فقيه, حصيف, ذكي يجيد تصويب فهمه الى مغاليق الأمور, ويتألق في الافتاء والقضاء, حتى قيل:

” قضاة هذه الأمة أربعة:

” عمر وعلي وأبو موسى وزيد بن ثابت”..!!

ثم هو مع هذا, صاحب فطرة بريئة, من خدعه في الله, انخدع له..!!

وهو عظيم الولاء والمسؤولية..

وكبير الثقة بالناس..

لو أردنا أن نختار من واقع حياته شعارا, لكانت هذه العبارة:

” الاخلاص وليكن ما يكون”..

في مواطن الجهاد, كان الأشعري يحمل مسؤولياته في استبسال مجيد مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلمي يقول عنه:

” سيّد الفوارس, أبو موسى”..!!

وانه ليرينا صورة من حياته كمقاتل فيقول:

” خرجنا مع رسول الله في غزاة, نقبت فيها أقدامنا, ونقّبت قدماي, وتساقطت أظفاري, حتى لففنا أقدامنا بالخرق”..!!

وما كانت طيبته وسلامة طويته ليغريا به عدوّا في قتال..

فهو في موطن كهذا يرى الأمور في وضوح كامل, ويحسمها في عزم أكيد..

ولقد حدث والمسلمون يفتحون بلاد فارس أن هبط الأشعري يجيشه على أهل أصبهان الذين صالحوه على الجزية فصالحهم..

بيد أنهم في صلحهم ذاك لم يكونوا صادقين.. انما ارادوا أن يهيئوا لأنفسهم الاعداد لضربة غادرة..

ولكن فطنة أبي موسى التي لا تغيب في مواطن الحاجة اليها كانت تستشف أمر أولئك وما يبيّتون.. فلما همّوا بضربتهم لم يؤخذ القائد على غرّة, وهنالك بارزهم القتال فلم ينتصف النهار حتى كان قد انتصر انتصارا باهرا..!!

وفي المعارك التي خاضها المسلمون ضدّ امبراطورية الفرس, كان لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه, بلاؤه العظيم وجهاده الكريم..

وفي موقعة تستر بالذات, حيث انسحب الهرزمان بجيشه اليها وتحصّن بها, وجمع فيها جيوشا هائلة, كان أبو موسى بطل هذه الموقعة..

ولقد أمدّه أمير المؤمنين عمر يومئذ بأعداد هائلة من المسلمين, على رأسهم عمار بن ياسر, والبراء بن مالك, وأنس بن مالك, ومجزأة البكري وسلمة بن رجاء..

واتقى الجيشان..

جيش المسلمين بقيادة أبو موسى.. وجيش الفرس بقيادة الهرزمان في معركة من أشد المعارك ضراوة وبأسا..

وانسحب الفرس الى داخل مدينة تستر المحصنة..

وحاصرها المسلمون أياما طويلة, حتى أعمل أبو موسى عقله وحيلته..

وأرسل مائتي فارس مع عميل فارسي, أغراه أبو موسى بأن يحتال حتى يفتح باب المدينة, أمام الطليعة التي اختارها لهذه المهمة.

ولم تكد الأبواب تفتح, وجنود الطليعة يقتحمون الحصن حتى انقض أبو موسى بجيشه انقضاضا مدمدما.

واستولى على المعقل الخطير في ساعات. واستسلم قادة الفرس, حيث بعث بهم أبو موسى الى المدينة ليرى أمير المؤمنين فيهم رأيه..

على أن هذا المقاتل ذا المراس الشديد, لم يكن يغادر أرض المعركة حتى يتحوّل الى أوّاب, بكّاء وديع كالعصفور…

يقرأ القرآن بصوت يهز أعماق من سمعه.. حتى لقد قال عنه الرسول:

” لقد أوتي أبو موسى مزمارا من مزامير آل داود”..!

كان عمر رضي الله عنه كلما رآه دعاه ليتلو عليه من كتاب الله.. قائلا له:

” شوّقنا الى ربنا يا أبا موسى”..

كذلك لم يكن يشترك في قتال الا أن يكون ضد جيوش مشركة, جيوش تقاوم الدين وتريد أن تطفئ نور الله..

أما حين يكون القتال بين مسلم ومسلم, فانه يهرب منه ولا يكون له دور أبدا.

ولقد كان موقفه هذا واضحا في نزاع عليّ ومعاوية, وفي الحرب التي استعر بين المسلمين يومئذ أوراها.

ولعل هذه النقطة من الحديث تصلنا بأكثر مواقف حياته شهرة, وهو موقفه من التحكيم بين الامام علي ومعاوية.

هذا الموقف الذي كثيرا ما يؤخذ آية وشاهدا على افراط أبي موسى في الطيبة الى حد يسهل خداعه.

بيد أن الموقف كما سنراه, وبرغم ما عسى أن يكون فيه تسرّع أو خطأ, انما يكشف عن عطمة هذا الصحابي الجليل, عظمة نفسه, وعظمة ايمانه بالحق, وبالناس, ان راي أبي موسى في قضية التحكيم يتلخص في أنه وقد رأى المسلمين يقتل بعضهم بعضا, كل فريق يتعصب لامام وحاكم.. كما رأى الموقف بين المقاتلين قد بلغ في تأزمه واستحالة تصفيته المدى الذي يضع مصير الأمة المسلمة كلها على حافة الهاوية.

نقول: ان رأيه وقد بلغت الحال من السوء هذا المبلغ, كان يتلخص في تغيير الموقف كله والبدء من جديد.

ان الحرب الأهلية القائمة يوم ذاك انما تدور بين طائفتين من المسلمين تتنازعان حول شخص الحاكم, فليتنازل الامام علي عن الخلافة مؤقتا, وليتنازل عنها معاوية, على أن يرد الأمر كله من جديد الى المسلمين يختارون بطريق الشورى الخليفة الذي يريدون.

هكذا ناقش أبو موسى القضية, وهكذا كان حله.

صحيح أن عليّا بويع بالخلافة بيعة صحيحة.

وصحيح أن كل تمرد غير مشروع لا ينبغي أن يمكّن من غرضه في اسقاط الحق المشروع. بيد أن الأمور في النزاع بين الامام ومعاوية وبين أهل العراق وأهل الشام, في رأي أبي موسى, قد بلغت المدى الذي يفرض نوعا جديدا من التفكير والحلول.. فعصيان معاوية, لم يعد مجرّد عصيان.. وتمرّد أهل الشام لم يعد مجرد تمرد.. والخلاف كله يعود مجرد خلاف في الرأي ولا في الاختيار..

بل ان ذلك كله تطوّر الى حرب أهلية ضارية ذهب ضحيتها آلاف القتلى من الفريقين.. ولا تزال تهدد الاسلام والمسلمين بأسوأ العواقب.

فازاحة أسباب النزاع والحرب, وتنحية أطرافه, مثّلا في تفكير أبي موسى نقطة البدء في طريق الخلاص..

ولقد كان من رأي الامام علي حينما قبل مبدأ التحكيم, أن يمثل جبهته في التحكيم عبدالله بن عباس, أو غيره من الصحابة. لكن فريقا كبيرا من ذوي البأس في جماعته وجيشه فرضا عليه أبا موسى الأشعري فرضا.

وكانت حجتهم في اختيار أبا موسى أنه لم يشترك قط في النزاع بين علي ومعاوية, بل اعتزل كلا الفريقين بعد أن يئس من حملهما على التفاهم والصلح ونبذ القتال. فهو بهذه المثابة أحق الناس بالتحكيم..

ولم يكن في دين أبي موسى, ولا في اخلاصه وصدقه ما يريب الامام.. لكنه كان يدرك موايا الجانب الآخر ويعرف مدى اعتمادهم على المناورة والخدعة. وأبو موسى برغم فقهه وعلمه يكره الخداع والمناورة, ويحب أن يتعامل مع الناس بصدقه لا بذكائه. ومن ثم خشي الامام علي أن ينخدع أبو موسى للآخرين, ويتحول التحكيم الى مناورة من جانب واحد, تزيد الأمور سوءا…

بدأ التحيكم بين الفريقين..

أبو موسى الأشعري يمثل جبهة الامام علي..

وعمرو بن العاص, يمثل جانب معاوية.

والحق أن عمرو بن العاص اعتمد على ذكائه الحاد وحيلته الواسعة في أخذ الراية لمعاوية.

ولقد بدأ الاجتماع بين الرجلين, الأشعري, وعمرو باقتراح طرحه أبو موسى وهو أن يتفق الحكمان على ترشيح عبدالله بن عمر بل وعلى اعلانه خليفة للمسلمين, وذلك لما كان ينعم به عبدالله بن عمر من اجماع رائع على حبه وتوقيره واجلاله.

ورأى عمرو بن العاص في هذا الاتجاه من أبي موسى فرصة هائلة فانتهزها..

ان مغزى اقتراح أبي موسى, أنه لم يعد مرتبطا بالطرف الذي يمثله وهو الامام علي..

ومعناه أيضا أنه مستعد لاسناد الخلافة الى آخرين من أصحاب الرسول بدليل أنه اقترح عبدالله بن عم..

وهكذا عثر عمرو بدهائه على مدخل فسيح الى غايته, فراح يقترح معاوية.. ثم اقترح ابنه عبدالله بن عمرو وكان ذا مكانة عظيمة بين أصحاب رسول الله.

ولك يغب ذكاء أبي موسى أمام دهاء عمرو.. فانه لم يكد يرى عمرا يتخذ مبدأ الترشيح قاعدة الترشيح للحديث والتحكيم حتى لوى الزمام الى وجهة أسلم, فجابه عمرا بأن اختيار الخليفة حق للمسلمين جميعا, وقد جعل الله أمرهم شورى بينهم, فيجب أن يترك الأمر لهم وحدهم وجميعهم لهم الحق في هذا الاختيار..

وسوف نرى كيف استغل عمرو هذا المبدأ الجليا لصالح معاوية..

ولكن قبل ذلك لنقرأ نص الحوار التاريخي الذي دار بين أبي موسى وعمرو بن العاص في بدء اجتماعهما:

أبو موسى: يا عمرو, هل لك في صلاح الأمة ورضا الله..؟

عمرو: وما هو..؟

أبو موسى: نولي عبدالله بن عمر, فانه لم يدخل نفسه في شيء من هذه الحرب.

عمرو: وأين أنت من معاوية..؟

أبو موسى: ما معاوية بموضع لها ولا يستحقها.

عمرو: ألست تعلم أن عثمان قتل مظلموا..؟

أبو موسى: بلى..

عمرو: فان معاوية وليّ دم عثمان, وبيته في قريش ما قد علمت. فان قال الناس لم أولي الأمر ولست سابقة؟ فان لك في ذلك عذرا. تقول: اني وجدته ولي عثمان, والله تعالى يقول: ( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا).. وهو مع هذا, اخو أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم, وهو أحد أصحابه..

أبو موسى: اتق الله يا عمرو..

أمّا ما ذكرت من شرف معاوية, فلو كانت الخلافة تستحق بالشرف لكان أحق الناس بها أبرهة بن الصبّاح فانه من أبناء ملوك اليمن التباعية الذين ملكوا شرق الأرض ومغربها.. ثم أي شرف لمعاوية مع علي بن أبي طالب..؟؟

وأما قولك: ان معاوية ولي عثمان, فأولى منه عمرو بن عثمان..

ولكن ان طاوعتني أحيينا سنة عمر بن الخطاب وذكره, بتوليتنا ابنه عبدالله الحبر..

عمرو: فما يمنعك من ابني عبدالله مع فضله وصلاحه وقديم هجرته وصحبته..؟

أبو موسى: ان ابنك رجل صدق, ولكنك قد غمسته في هذه الحروب غمسا, فهلم نجعلها للطيّب بن الطيّب.. عبدالله بن عمر..

عمرو: يا أبا موسى, انه لا يصلح لهذا الأمر الا رجل له ضرسان يأكل بأحدهما, ويطعم بالآخر..!!

أبو موسى: ويحك يا عمرو.. ان المسلمين قد أسندوا الينا الأمر بعد أن تقارعوا السيوف, وتشاكوا بالرماح, فلا نردهم في فتنة.

عمرو: فماذا ترى..؟أبو موسى: أرى أن نخلع الرجلين, عليّا ومعاوية, ثم نجعلها شورى بين المسلمين, يختارون لأنفسهم من يحبوا..

عمرو: رضيت بهذا الرأي فان صلاح النفوس فيه..

ان هذا الحوار يغير تماما وجه الصورة التي تعوّدنا أن نرى بها أبا موسى الأشعري كلما ذكرنا واقعة التحكيم هذه..

ان أبا موسى كان أبعد ما يكون عن الغفلة..

بل انه في حواره هذا كان ذكاؤه أكثر حركة من ذكاء عمرو بن العاص المشهور بالذكاء والدهاء..

فعندما أراد عمرو أن يجرّع أبا موسى خلافة معاوية بحجة حسبه في قريش, وولايته لدم عثمان, جاء رد أبي موسى حاسما لامعا كحد السيف..

اذا كانت الخلافة بالشرف, فأبرهة بن الصباح سليل الملوك أولى بها من معاوية..

واذا كانت بدم عثمان والدفاع عن حقه, فابن عثمان رضي الله عنه, اولى بهذه الولاية من معاوية..

لقد سارت قضية التحيكم بعد هذا الحوار في طريق يتحمّل مسؤليتها عمرو بن العاص وحده..

فقد أبرأ أبو موسى ذمته بردّ الأمر الى الأمة, تقول كلمتها وتخنار خليفتها..

ووافق عمرو والتزم بهذا الرأي..

ولم يكن يخطر ببال أبي موسى أن عمرو في هذا الموقف الذي يهدد الاسلام والمسلمين بشر بكارثة, سيلجأ الى المناورة, هما يكن اقتناعه بمعاوية..

ولقد حذره ابن عباس حين رجع اليهم يخبرهم بما تم الاتفاق عليه..

حذره من مناورات عمرو وقال له:

” أخشى والله أن يكون عمرو قد خدعك, فان كنتما قد اتفقتما على شيء فقدمه قبلك ليتكلم, ثم تكلم أنت بعده”..!

لكن أبا موسى كان يرى الموقف أكبر وأجل من أن يناور فيه عمرو, ومن ثم لم يخالجه أي ريب أوشك في التزام عمرو بما اتفقنا عليه..

واجتمعا في اليوم التالي.. أبو موسى ممثلا لجبهة الامام علي, وعمرو بن العاص ممثلا لجبهة معاوية..

ودعا أبو موسى عمرا ليتحدث.. فأبى عمرو وقال له:

” ما كنت لأتقدمك وأنت أكثر مني فضلا.. وأقدم هجرة.. وأكبر سنا”..!!

وتقد أبو موسى واستقبل الحشود الرابضة من كلا الفريقين.

وقال:

” أيها الناس.. انا قد نظنا فيما يجمع الله به ألفة هذه الأمة, ويصلح أمرها, فلم نر شيئا أبلغ من خلع الرجلين علي ومعاوية, وجعلها شورى يختار الناس لأنفسهم من يرونه لها..

واني قد خلعت عليا ومعاوية..

فاستقبلوا أمركم وولوا عليكم من أحببتم”…

وجاء دور عمرو بن العاص ليعلن خلع معاوية, كما خلع أبو موسى عليا, تنفيذا للاتفاق المبرم بالأمس…

وصعد عمرو المنبر, وقال:

” أيها الناس, ان أبا موسى قد قال كما سمعتم وخلع صاحبه,

ألا واني قد خلعت صاحبه كما خلعه, وأثبت صاحبي معاوية, فانه ولي أمير المؤمنين عثمان والمطالب بدمه, وأحق الناس بمقامه..”!!

ولم يحتمل أبو موسى وقع المفاجأة, فلفح عمرا بكلمات غاضبة ثائرة..

وعاد من جديد الى عزلته, وأغذّ خطاه الى مكة.. الى جوار البيت الحرام, يقضي هناك ما بقي له من عمر وأيام..

كان أبو موسى رضي الله عنه موضع ثقة الرسول وحبه, وموضع ثقة خلفائه واصحابه وحبهم…

ففيحياته عليه الصلاة والسلام ولاه مع معاذ بن جبل أمر اليمن..

وبعد وفاة الرسول عاد الى المدينة ليجمل مسؤولياته في الجهاد الكبير الذي خاضته جيوش الاسلام ضد فارس والروم..

وفي عهد عمر ولاه أمير المؤمنين البصرة..

وولاه الخليفة عثمان الكوفة..

وكان من أهل القرآن, حفظا, وفقها, وعملا..

ومن كلماته المضيئة عن القرآن:

” اتبعوا القرآن..

ولا تطمعوا في أن يتبعكم القرآن”..!!

وكان من اهل العبادة المثابرين..

وفي الأيام القائظة التي يكاد حرّها يزهق الأنفاس, كنت تجد أبا موسى يلقاها لقاء مشتاق ليصومها ويقول:

” لعل ظمأ الهواجر يكون لنا ريّا يوم القيامة”..

وذات يوم رطيب جاءه أجله..

وكست محيّاه اشراقة من يرجو رحمة الله وحسن ثوابه.ز

والكلمات التي كان يرددها دائما طوال حياته المؤمنة, راح لسانه الآن وهو في لحظات الرحيل يرددها.ز

تلك هي:

” اللهم أنت السلام..ومنك السلام

المصدر : كتب تاريخ الاسلام